شمال سوريا يشتعل- تداعيات حلب تنذر بحروب إقليمية جديدة

الأحداث المتسارعة في الشمال السوري، كانت بمثابة الزلزال الذي هزّ أركان دمشق وطهران وموسكو، بل وربما الضاحية الجنوبية لبيروت. لم تكن مجرد جولة قتالية عابرة ضمن سلسلة الصراعات الممتدة بين النظام السوري وأطراف المعارضة المختلفة، بل كانت تحولًا جذريًا في المشهد برمته، جاء في توقيت بالغ الحساسية، مُعيدًا إلى الأذهان ذكريات مؤلمة من الفصول الأولى للأزمة السورية التي اندلعت قبل أكثر من عقد.
ما جرى في قلب حلب ومحيطها، وامتد إلى أرياف إدلب وحماة وأطراف ريف حمص، كان مزيجًا معقدًا من "سيناريوهين" شهدهما التاريخ الحديث، وكلاهما أفضى إلى نتائج كارثية ما زالت تداعياتها مستمرة حتى يومنا هذا:
-
السيناريو الأول: السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث باغت الهجوم المباغت المقاومة الفلسطينية إسرائيل بصورة لم يتوقعها أحد، ليس فقط من حيث حجمه وتأثيره الاستراتيجي، بل أيضًا من حيث خروجه عن السيطرة. فلولا الانهيار السريع والمذهل للدفاعات الإسرائيلية حول غزة، لما استمرت الحرب لفترة طويلة، وما كانت لتتوسع وتشتد ضراوتها كما رأينا جميعًا على مدار الأشهر الطويلة الماضية.
وبالمثل، كان للانهيارات المفاجئة في محيط حلب، صدى مدوٍ في دمشق وعواصم حلفائها، وإن كان الهجوم قد فاجأ منفذيه أيضًا، وتجاوز الأهداف المعلنة باستعادة "مناطق خفض التصعيد"، ليجدوا الطريق إلى حلب مفتوحًا على مصراعيه، والسيطرة عليها لم تتطلب سوى "مسافة السكة". - السيناريو الثاني: سقوط الموصل في يد تنظيم الدولة عام 2014، حيث تبخرت فرقتا عسكريتين عراقيتين في غمضة عين، تاركة وراءها أسلحة ثقيلة وملايين الدولارات في فرع البنك المركزي، لتنظيم إرهابي متطرف. سقوط ثاني أكبر مدن العراق لم يتطلب سوى "مسافة السكة"، تمامًا كما حدث في ثاني أكبر مدن سوريا، التي كانت تحظى بحماية فرقتين عسكريتين وآلاف المقاتلين من مختلف التشكيلات العسكرية، والذين تبخروا فجأة. في الحالتين، يتطلب الأمر تفسيراً أعمق من مجرد "نظرية المؤامرة"، رغم أن المؤامرات جزء لا يتجزأ من التاريخ.
في دلالة التوقيت
تتعدد القراءات في تفسير دلالة التوقيت وأسباب اختياره، ويمكن تقسيمها إلى قسمين، الأولى مرتبطة بفريق النظام، والثانية بخصومه:
- الرواية الأولى: تشير إلى أن قرار شن الهجوم صدر بعد انتهاء "العمليات العدائية" بين لبنان وإسرائيل. ويرى أصحاب هذه النظرية أن القرار صدر من تل أبيب وواشنطن، وبموافقة أنقرة، بهدف استكمال ما بدأ في غزة ولم ينته في لبنان.
- الرواية الثانية: ترى أن من خطط وأمر بالهجوم، استغل الظروف الإقليمية والدولية المناسبة لتنفيذ العملية في هذا التوقيت بالذات، بعد أن رأى أن حلفاء طهران في أضعف حالاتهم. حزب الله، الذي خاض معارك ضارية إلى جانب النظام، يعاني من الإرهاق بعد عام من حرب الإسناد وشهرين من حرب الدفاع عن النفس، وإيران تواجه ضغوطًا متزايدة بعد غزة ولبنان، وسلسلة الهجمات التي استهدفت مواقعها في سوريا، بالإضافة إلى شبح ترامب الذي يلوح في الأفق.
أما روسيا، الحليف الأقوى لدمشق، فهي بعد سنوات من الحرب في أوكرانيا، وبعد قرار واشنطن بالسماح لكييف باستهداف العمق الروسي بالأسلحة الغربية، تجد نفسها في موقف صعب، فهي غير قادرة على تخفيف الضغط على جبهات أوكرانيا، وفي الوقت نفسه لا يمكنها التخلي عن سوريا، التي تمثل قاعدة نفوذها الوحيدة في شرق المتوسط.
تتطلب الرواية الأولى تضخيم حجم الهجوم، كما فعلت الحكومة العراقية عند سقوط الموصل، والمبالغة في تصوير التدخل الإسرائيلي والأمريكي في قرار الحرب، والخلط بين ما إذا كان القرار قد صدر عن واشنطن وتل أبيب، أو أن العاصمتين المتحالفتين ستسعيان لتوظيف هذا الوضع لخدمة مصالحهما الاستراتيجية.
في المقابل، تسعى الرواية الثانية إلى البحث عن "العامل التركي" الكامن وراء هذا التحول في المشهد، وما الذي تريده أنقرة وتحاول تحقيقه، وهل كانت تتوقع أن يصل الهجوم إلى قلب حلب؟ وكيف ستتصرف الآن، وهل ارتفع سقف مطالبها في ضوء المكاسب التي تحققت بسهولة وبتكلفة قليلة على يد القوى المتحالفة معها؟
مسؤولية دمشق
تتجاهل الرواية الرسمية السورية أي حديث عن مسؤولية النظام عن الانهيار. الأسد يتصرف وكأنه "المنتصر"، والإعلام السوري هلل لعودة الجامعة العربية إلى سوريا، بدلًا من الحديث عن عودة سوريا إلى الجامعة، وأعلن أن السلطة استتبت له، وأن المناطق الخارجة عن سيطرته ستعود حتمًا، دون بذل أي جهد لتعزيز "انتصاره" وترتيب البيت الداخلي، ودون الاهتمام بحقيقة أن الجيش السوري يعاني من الإرهاق وأن ميزانية الدولة المتواضعة لا تكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية.
بدا أن مسار أستانا قد تحول إلى مجرد "طقوس" من الاجتماعات التي لا تسفر عن شيء، وتجاهل الرئيس السوري دعوات نظيره التركي المتكررة للاجتماع والتباحث في مختلف الملفات، مما أثار استغراب الكثيرين.
صحيح أن دمشق لا تتحمل وحدها مسؤولية فشل جهود المصالحة، وأن مطالبها بانسحاب القوات التركية من سوريا مشروعة، لكن الصحيح أيضًا أن دمشق كانت بحاجة إلى إثبات قدرتها على ضبط الحدود مع تركيا، بعد فشلها في ضبط حدودها مع الأردن، وجاء الهجوم على حلب ليؤكد أن قوات النظام في وضعها الحالي غير قادرة على حماية حدودها المترامية الأطراف، ولا حتى الحفاظ على المدن والبلدات التي تسيطر عليها دون دعم خارجي.
كان من الممكن الشروع في حوارات معمقة مع تركيا، ترتكز على القواسم المشتركة بين الجانبين، مثل المسألة الكردية وقضية اللاجئين وضبط الحدود، والتوصل إلى اتفاق على جداول زمنية واضحة لانسحاب القوات التركية وتفكيك الميليشيات وعودة اللاجئين وتطبيع العلاقات، لكن عقلية "المنتصر" أعمت القيادة السورية عن رؤية التطورات الاستراتيجية من حولها.
كان بإمكان دمشق استغلال الانفتاح العربي عليها، والمصالحات العربية التركية، لإدخال أطراف عربية كوسيط فاعل ومؤثر مع تركيا، خاصة وأن العلاقات بين أنقرة والرياض والقاهرة وأبوظبي تشهد تحسنًا ملحوظًا، وأن هناك موقفًا عربيًا منفتحًا على سوريا، ومعبرًا عن التضامن معها والالتزام بوحدة أراضيها، إلا أن الدبلوماسية السورية استمرت في إدارة السياسة الخارجية بأدواتها القديمة، رغم التغيرات في المحيط الاستراتيجي الإقليمي والدولي.
لا يجيز احتباس مسار المصالحة بين دمشق وأنقرة لتركيا استخدام القوة لدفع دمشق إلى ما لا تريده، ما لم تكن هناك تغيرات في السياسة التركية تجاه سوريا، وبدأت تعتقد أن بإمكانها استئناف ما انقطع قبل سنوات، وهذا أمر يجب مراقبته بدقة، من منطلق الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها.
لكننا أمام وضع قد تتورط فيه مختلف الأطراف، فإذا كان الطريق إلى حلب سالكًا أمام خصوم النظام، فإن طريق الأخير للعودة إليها قد لا يكون كذلك أبدًا. النظام وحلفاؤه ليسوا في وضع يسمح لهم بالاستسلام وخسارة العاصمة الاقتصادية، وإذا كان الطريق إلى حلب مفتوحًا، فإنه ميدان مليء بالمفاجآت والاحتمالات، بما في ذلك معارك طاحنة وحروب طويلة، ويجب أن نتذكر أن تنظيم الدولة لم يخرج من الموصل إلا بعد أن تحولت إلى أنقاض، وبعد سنوات من القتال وسقوط آلاف الضحايا وتشريد أضعافهم.
مثل هذا "السيناريو الحربي" قد يزيد من تورط الأطراف الدولية والإقليمية في الصراع السوري، وما لم تنجح جهود اللحظة الأخيرة لتهدئة الوضع، فسنكون أمام سيناريو "عودة إلى المربع الأول" في سوريا، وستحتدم حروب الوكالة، وقد تؤدي الفوضى إلى عودة الجماعات الإرهابية بقوة، وقد تشتعل الأحداث في جنوب سوريا، وتعود عمليات تنظيم الدولة في الباديتين العراقية والسورية.
أقلمة الصراع وتدويله
لن تتخلى موسكو عن دمشق، وستفعل كل ما بوسعها لإنقاذ النظام، وهي تراهن على وصول ترامب لإبرام التسويات الكبرى، التي قد لا تكون دمشق من بين أبرز المستفيدين منها. وطهران لن تغادر سوريا، فهي حجر الزاوية في نفوذها الإقليمي، والعقدة التي تربطها بمنطقة البحر الأبيض المتوسط.
في المقابل، لن تتخلى إدارة بايدن عن أكراد سوريا، وقد تواجه إدارة ترامب صعوبة في فعل ذلك. وإسرائيل تراقب المشهد بفرح حَذِر، لأن جميع الأطراف المتصارعة في سوريا هم أعداؤها، ولأن انشغال إيران بسوريا قد يسهم في استنزافها، وأن الوضع الصعب الذي يواجهه الأسد قد يجعله أكثر استعدادًا لتقويض الدعم الإيراني لحزب الله.
هذه أخبار جيدة لإسرائيل على المدى القصير، أما على المستوى الاستراتيجي، فمصالح إسرائيل تكمن في بناء "حلف للأقليات" بهدف تفتيت سوريا، كما صرح وزير خارجيتها.
لكن الفرحة الإسرائيلية مشوبة بالحذر، فالفوضى في سوريا مرغوبة طالما أنها تحت السيطرة، ولكنها ستصبح عبئًا على "نظرية الأمن القومي" الإسرائيلية إذا خرجت عن السيطرة.
تفضل واشنطن في الفترة المتبقية من ولاية بايدن إطالة أمد الحرب في سوريا، بعد أن فعلت ذلك في أوكرانيا، لكنها ستجد نفسها في موقف حرج إذا تعرض حلفاؤها الأكراد لضربات موجعة من حلفاء أنقرة في الشمال السوري، وستكون مرة أخرى أمام خيارات صعبة.
بشكل عام، أصبح الشمال السوري ساحة حرب ثالثة بعد غزة ولبنان، ومن غير المستبعد أن تمتد إلى مناطق أخرى في سوريا وخارجها. فالعراق يترقب بقلق هذه التطورات، والتهديدات الإسرائيلية لفصائل المقاومة العراقية. فيما الأردن يعلن حالة الاستنفار القصوى، لأن ما يحدث في سوريا قد يؤثر على أمنه واستقراره، وسط مخاوف من موجات نزوح ولجوء جديدة. يبدو أننا في هذا الإقليم محكوم علينا بالتنقل بين أزمة وأخرى، وبين حرب وأخرى، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.